سورة هود - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه، والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم، وقوله: {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها، وهذا من باب حذف المضاف، لأن المعنى: فعليَّ عقاب إجرامي، وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى: إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه، كقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل} [الزمر: 9] ولم يذكر البقية، وقوله: {وَأَنَاْ بَرِئ مّمَّا تُجْرَمُونَ} أي أنا بريء من عقاب جرمكم، وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام، وهذه الآية وقعت في قصة محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء حكاية نوح، وقولهم بعيد جداً، وأيضاً قوله: {قُلْ إِنْ افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} لا يدل على أنه كان شاكاً، إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول.


{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على قومه فقال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي لا تحزن، قال أبو زيد: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وأنشد أبو عبيدة:
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس *** به وأقعد كريماً ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا: إنه تعالى أخبر عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلاب هذا العلم جهلاً والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقاً، ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين، والثاني أيضاً باطل، لأن انقلاب خبر الله كذباً وعلم الله جهلاً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لابد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالاً مع أنهم كانوا مأمورين به، وأيضاً القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه. ومنه قوله: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ من قد آمن} فيلزم أن يقال: إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة. وذلك تكليف الجمع بين النقيضين، وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مراراً وأطواراً.
المسألة الثالثة: اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن، فقال قوم: إنه لا يجوز.
واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26، 27] وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم، لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن، ولا في أولادهم أحد يؤمن.
قال القاضي وقال كثير من علمائنا: إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن.
وأما قول نوح عليه السلام: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجراً كفاراً وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولاً بمجموع هاتين العلتين، وأيضاً فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك، والأقرب أن يقال: إن نوحاً عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم، فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل فيه من تلك المحبة، ولذلك قال تعالى من بعد: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة، فإن الدين عزيز، وإن قل عدد من يتمسك به، والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به.


{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
واعلم أن قوله تعالى: {إِنَّهُ لَن يُؤْمِنَ قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} [هود: 36] يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم، فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب، فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق، ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة. لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر.
فإن قيل: قوله تعالى: {واصنع الفلك} أمر إيجاب أو أمر إباحة.
قلنا: الأظهر أنه أمر إيجاب، لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً ليسكنها ويقيم بها.
أما قوله: {بِأَعْيُنِنَا} فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه:
أحدها: أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة.
وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} [طه: 39].
وثانيها: أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين، كما يقال: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها: أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهاً عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه:
الأول: أن معنى {بِأَعْيُنِنَا} أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة، يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصاً عن أحواله ولا تحول عنه عينه.
الثاني: أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه، فلما كان وضع العين على الشيء سبباً لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط، فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك، وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل.
والثاني: أن يكون عالماً بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه، وقوله: {وَوَحْيِنَا} إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب.
وأما قوله: {وَلاَ تخاطبنى فِي الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مغرقون} ففيه وجوه:
الأول: يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم، فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] الثاني: {وَلاَ تخاطبنى} في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا، فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً.
الثالث: المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11